كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: سمعت أنَسًا يقرأ: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمِزون}، قيل له: وما يجمزون؟ إنما هي {يجمحون}، فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.
قال أبو الفتح: ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرءون الحرف مكان نظيره من غير أن تتقدم القراءة بذلك؛ لكنه لموافقته صاحبه في المعنى. وهذا موضع يجد الطاعن به إذا كان هكذا على القراءة مطعنًا، فيقول: ليست هذه الحروف كلها عن النبي- صلى الله عليه سلم- ولو كانت عنه لما ساغ إبدال لفظ مكان لفظ؛ إذ لم يثبت التخيير في ذلك عنه، ولما أنكر أيضًا عليه: {يجمزون}، إلا أن حُسْنَ الظن بأَنَس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة التي هي: يجمحون ويجمزون ويشتدون، فيقول: اقرأ بأيها شئت، فجميعها قراءة مسموعة عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله عليه السلام: «نزل القرآن بسبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ».
فإن قيل: لو كانت هذه الأحرف مقروءًا بجميعها لكان النقل بذلك قد وصل إلينا، وقيل: أَوَلَا يكفيك أنس موصِّلًا لها إلينا؟ فإن قيل: ان أنسًا لم يحكها قراءة؛ وإنما جمع بينها في المعنى، واعتل في جواز القراءة بذلك لا بأنه رواها قراءة متقدمة. قيل: قد سبق من ذكر حسن الظن ما هو جواب عن هذا.
ونحوٌ من هذه الحكاية ما يُروى عن أبي مَهدية من أنه كان إذا أراد الأذان قال: الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين كذلك إلى آخر الأذان، ينطق من ذلك بالمرة الواحدة، ويقول في إثرها: مرتين كما ترى، فيقال له: ليس هكذا الأذان، إنما هو كذا، فيقول: المعنى واحد، وقد علمتم أن التَّكْرَارَ عِيٌّ.
وهذا لعمري مسموع من أبي مَهدية إلا أنه كان مدخولًا، ألا ترى أن أبا محمد يحيى بن المبارك اليزيدي وخلفًا الأحمر لما أنفذهما إليه أبو عمرو ليسألاه عن شيء من اللغة لخلاف جرى بينه وبين عيسى بن عمر أتياه وهو يخاطب الشياطين في صلاته: اخسأنانَّ عني، اخسأنان عني.
وكذلك قول ذي الرمة:
وظاهِرْ لها من يابس الشخت

فقيل له: أنشدتنا بائس فقال: يابس بائس واحد. وهذا شعر ليست عليه مضايقة الشرع.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: كان يحضر ابنَ الأعرابي شيخٌ من أهل مجلسه، فسمعه يومًا ينشد:
وموضِعِ زَبْنٍ لا أُريد بَراحه ** كأني به من شدة الروع آنس

فقال له الشيخ: ليس هكذا أنشدتنا يا أبا عبيد الله، فقال: كيف أنشدتك؟ فقال له: وموضع ضيق، فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا سنة ولا تعلم أن الزبْن والضيق شيء واحد؟ فهذا لعمري شائع؛ لأنه شعر وتحريفه جائز؛ لأنه ليس دِينًا ولا عملًا مسنونًا.
ومن ذلك ما حكاه ابن أبي عبيدة بن معاوية بن قُرْمُل عن أبيه عن جده- وكانت له صحبة- أنه قرأ: {لَوالَوْا إليه} بالألف وفتحة اللام الثانية.
قال أبو الفتح: هذا مما اعتقب عليه فَاعَل وفَعَّل؛ أعني: وَالَوا ووَلَّوا، ومثله ضعَّفت وضاعفت الشيء، ووصَّلت الحديث وواصلته، وسوَّفت الرجل وساوفته، ومن أبيات الكتاب:
لو ساوَفَتْنا بِسُوف من تحيتها ** سوْفَ العيوف لراح الركب قد قنِعوا

سوف العيوف: مصدر محذوف الزيادة؛ أي: مساوفة العيوف.
ومن ذلك ما رُوي عن مجاهد: {إِنْ تُعْفَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} بالتاء المضمومة {تُعَذَّبْ طَائِفَة}.
قال أبو الفتح: الوجه {يُعْفَ} بالياء لتذكير الظروف، كقولك: سِيرَت الدابة وسِير بالدابة، وقُصدت هند وقُصد إلى هند؛ لكنه حمله على المعنى فأنث {تُعْفَ}، حتى كأنه قال: إن تُسامَح طائفة أو إن تُرحم طائفة. وزاد في الأُنس بذلك مجيء التأنيث يليه، وهو قوله: {تُعَذِّبْ طَائِفَةَ}، والحمل على المعنى أوسع وأفشى، منه ما مضى، ومنه ما سترى.
ومن ذلك ما يُروى عن مالك بن دينار: {فاقعُدوا مع الخَلِفين} بغير ألف.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون مقصورًا من {الخالفين} كقراءة الجماعة، وقد جاء نحو هذا، قال الراجز:
أصبح قلبي صَرِدَا لا يشتهي أن يَردا ** ألا عَرَادا عَرِدا وصِلِّيانا برِدا

وعَنْكثا ملتبِدا

يريد: عارِدا وبارِدا، كما قال أبو النجم:
كأن في الفُرْشِ القَتَاد العاردا

وقد حذفت الألف حشوًا في غير موضع. قال:
مثل النَّقا لبده ضرب الطِّلل

يريد: الطِّلال، كقول القُحَيف:
دِيار الحي تضربها الطِّلال ** بها أَنَس من الخافي ومالُ

وروينا عن قطرب:
ألا لا بارك الله في سهيل ** إذا ما الله بارك في الرجال

يريد: لا بارك الله، فحذف الألف قبل الهاء. وينبغي أن يكون ألف فعال؛ لأنها زائدة، كقوله تعالى: {إِلَهِ النَّاسِ}، ولا تكون الألف التي هي عين فَعَل في أحد قولي سيبويه: إن أصله: لاهٌ كناب؛ لأن الزائد أولى بالحذف من الأصلي. وقد حذفوا الواو حشوًا أيضًا قالوا:
إن الفَقِير بيننا قاضٍ حَكَم ** أن تَرِد الماء إذا غاب النُّجُم

يريد: النجوم. وقال الأخطل:
كلَمْع أيدي مثاكيل مُسلِّبَةٍ ** يندبْنَ ضَرْس بنات الدهر والْخُطُب

يريد: الخطوب. وقد حُذفت الياء أيضًا نحو قول عبيد الله بن الحر:
وبُدِّلتْ بعد الزعفران وطيبه ** صدا الدِّرع من مستحكِمات المسامر

يريد: المسامير. وقال الآخر:
والبكرات الفسج العطامسا

يريد: العطاميس.
فكما حُذفت حروف اللين من هذا ونحوه مما تركناه إجمامًا بحذفه، فكذلك تحذف الألف من {الخالفين} فيصير {الخَلِفين}.
ومن ذلك قراءة عمر بن الخطاب والحسن وقتادة وسلام وسعيد بن أسعد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي: {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ}.
قال أبو الفتح: الأنصار معطوف على قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ}.
فأما قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} فيجوز أن يكون معطوفًا على {الأنصار} في رفعه وجره، ويجوز أن يكون معطوفًا على {السابقون}، وأن يكون معطوفًا على {الأنصار} لقربه منه.
ومن ذلك قراءة الحسن: {صَدَقَةً تُطْهِرُهُم} خفيفة.
قال أبو الفتح: هذا منقول من طهَر وأَطهرته كظهر وأَظهرته. وقراءة الجماعة أشبه بالمعنى لكثرة المؤمنين؛ فذلك قرأت: {تُطَهِّرهم}، من حيث كان تشديد العين هنا إنما هو للكثير، وقد يؤدي فعلت وأَفعلت عن الكثرة من حيث كانت الأفعال تفيد أجناسها، والجنس غاية الجموع، ألا ترى أن ما أنشده الحسن من قوله:
أنت الفداءُ لقِبلة هدَّمتها ** ونَقَرتها بيديك كل منقَّر

ولم يقل: كل نَقْر، وهذا واضح، وعليه قراءة من قرأ: {وَأغْلَقَتِ الْأَبْوَاب}، وهو واضح.
ومن ذلك قراءة عبد الله بن يزيد: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهُ رِجَالٌ} بكسر هاء {فيه} الأولى، وضم هاء {فيه} الآخرة مختَلَستين.
قال أبو الفتح: أصل حركة هذه الهاء الضم، وإنما تكسر إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة، كقولك: مررت به، ونزلت عليه، وقد يجوز الضم مع الكسرة والياء، وقد يجوز إشباع الكسرة والضمة ومطلهما إلى أن تحدث الواو والياء بعدهما، نحو: مررت بهِي وبهُو، ونزلْتُ عليهِي وعليهُو، وهذا مشروح في أماكنه؛ لكن القول في كسر {فيه} الأولى وضم {فيه} الثانية.
والجواب أنه لو كسرهما جميعًا أو ضمهما جميعًا لكان جميلًا حسنًا، غير أن الذي سوَّغ الخلاف بينهما عندي هو تكرير اللفظ بعينه؛ لأنه لو قال: فيهِ فيهِ، أو فيهُ فيهُ لتكرَّر اللفظ عينه ألبتة، وقد عرفنا ما عليهم في استثقالهم تكرير اللفظ حتى أنهم لا يتعاطونه إلا فيما يتناهى عنايتهم به، فيجعلون ما ظهر من تَجشمهم إياه دلالة على قوة مراعاتهم له، نحو قولهم: ضربت زيدًا ضربت، وضربت زيدًا زيدًا، وقولهم: قم قائمًا قم قائمًا، وقولهم فيما لا محالة في توكيده؛ أعني الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
ومما يدلك على قوة الكلفة عليهم في التكرير أنهم لما صاغوا ألفاظ التوكيد لم يُرَدِّدوها بأعيانها؛ وذلك كقولهم: جاءني القوم أجمعون أكتعون أبصعون، فخالفوا بين الحروف؛ لكن أعادوا حرفًا واحدًا منها تنبيهًا على عنايتهم وإعلانهم أنه موضع يختارون تجشم التكرير من أجله، وجعلوا الحرف المعاد منه لامَه لأنه مقطع، والعناية بالمقاطع أقوى منها بِمَدْرَج الألفاظ.
ألا تراهم يتسمحون بحشو البيت في اختلافه، فإذا وصلوا إلى القافية راعوها ووفَّقوا بين أحكامها؛ أعني: في الروي والوصل والخروج والرِّدْف والتأسيس والحركات؟ وسبب ذلك أنه مقطع، والمعول في أكثر الأمر عليه.
ومنه إجماع الناس في الدعاء على أن يقولوا: اختِم بخير، ومنه قول الله سبحانه: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي: طَعْم مقطعه في طيب رائحة المسك، وهذا ألطف معنى من أن يكون المراد به أن هناك خاتمًا عليه، وأنه من مسك.
ومن تجنب التكرير قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}، ولم يقل: من بعد الفتح؛ تجنبًا للتكرير؛ ولهذا- في التكرير وكراهيتهم إياه إلا فيما يدُلُّون بتجشمهم تكريره على قوة اهتمامهم بما هم بسبيله- نظائر، وفيما ذكرنا كافٍ، فعلى هذا تكون هذه القراءة التي هي: فيهِ فيهُ اختيرت لوقوع الخلاف بين الحرفين على ما ذكرنا.
فإن قيل: فَلِمَ كُسر الأول وضُم الآخر وهلا عُكس الأمر؟ ففيه قولان؛ أحدهما: أن الكسر في نحو هذا أفشى في اللغة فقُدِّم، والضم أقل استعمالًا فأُخر، والثاني: وهو أغمض؛ وهو أن {فيه} الأولى ليست في موضع رفع؛ بل هي منصوبة الموضع بقال تعالى: {تَقُوم} من قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، و{فيه} من قوله: {فِيهِ رِجَالٌ} في موضع الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ مقدم عليه، والمبتدأ {رجال}، و{فيه} خبر عنه، فهو مرفوع الموضع، فلما كان كذلك سُبقت الضمة لتصور معنى الظرف.
ومعاذ الله أن نقول: إن ضمة الهاء من {فيه} عَلَم رفع، كيف ذلك والهاء مجرورة الموضع بفي؟ نعم وهي اسم مضمر، والمضمر لا إعراب في شيء منه، وهي أيضًا مكسورة في أكثر اللغة، هل يجوز أن يظن أحد أن الضمة فيها علَم رفع؟ لكن الكلمة مرفوعة الموضع، وتصوُّر معنى الرفع فيها أسبق إلى اللفظ، كما ذهب بعضهم في ضمة تاء المتكلم في نحو: قمتُ وذهبتُ إلى أنها إنما بُنيت على الضم لَمْحا لموضعها من الإعراب؛ إذ هي مرفوعة، وكانت أقوى من تاء المذكر والمؤنث في نحو: قمتَ وقمتِ؛ فكانت لذلك أحق بذلك.
وليس الظرف هنا وصفًا لمسجد؛ بل هو على الاسئناف، والوقف عندنا على قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، ثم استؤنف الكلام فقيل: {فِيهِ رِجَالٌ}. وهذا أولى من أن يُجعل الظرف وصفًا {لمسجد}؛ لما فيه من الفصل بين النكرة وصفتها بالخبر الذي هو {أحق}، ولأنك إذا استأنفت صار هناك كلامان، فكان أفخر من الوصف من حيث كانت الصفة مع موصوفها كالجزء الواحد.
ومن ذلك قراءة نصر بن عاصم بخلاف: أفمن أَسَسُ بُنْيانِه خيرٌ أم من أَسَسُ بُنيانِه في وزن فَعَل، وقرأ: أَساسُ بُنْيَانِه بفتح الألف وألف بين السينين نصر بن علي بخلاف، ورُوي عنه أيضًا: أُسُّ بُنْيانِه برفع الألف وخفض النون في {بنيانه} والسين مشددة.
قال أبو الفتح: يقال: هو أس الحائط وأساسه، فُعْل وفَعَال. وقد قالوا: له أَسّ بفتح الألف، وقد أَسّ البناء يؤسه أَسًّا: إذا بناه على أساس، وقالوا في جمع أُس: آساس، كقفل وأقفال، وقالوا في جمع أساس: إساس وأُسُس، ونظير أساس وإساس ناقة هِجان ونوق هِجَان، ودرع دِلاص وأدرع دِلاص، وإن كان هذا مكسور الأول، فإن فَعَالًا وفِعَالًا تجريان مجرى المثال الواحد، ألا ترى كل واحد منهما ثلاثيًّا وفيه الألف زائدة ثالثة؟ وقد اعتقبا أيضًا على المعنى الواحد فقالوا: أَوان وإِوان، ودَواء ودِواء، وحَصاد وحِصاد، وجَزَاز وجِزَاز، وجَرَام وجِرَام.
وقد يجوز أن يكون إِسَاس جمع أُسّ كبُرد وبِرَاد، وقد يجوز أن يكون حمع أَس كفَرخ وفراخ، وأما أُسُس فجع أساس كقُذُل وقَذَال. قال كَذَّاب بني الحِرْماز:
وأُس مجد ثابتٌ وطيد ** نال السماءَ فرعُه المديد